عربي مسلم يرأس أكبر مؤسسة طبية في العالم؟!

عربي مسلم يرأس أكبر مؤسسة طبية في العالم؟!

محمد عارف

السؤال أعلاه وجهّته مراسلة المجلة العلمية البريطانية "نيوساينتست" إلى الطبيب الجزائري إلياس زرهوني، الذي يرأس حالياً المعهد القومي للصحة في الولايات المتحدة، وهو أكبر وكالة للبحوث الطبية في العالم. يضم المعهد، الذي بلغت موازنته 27 مليار دولار في العام الماضي 27 مركزاً ومعهداً للبحوث، وتؤثر قرارته على السياسات الصحية للدول حول العالم، وتحدّد اتجاهات الصناعات الطبية العالمية، التي تتعامل بمليارات الدولارات.
هل لعبت خلفية زرهوني كعربي مسلم دوراً في قرار الرئيس الأميركي تعيينه عام 2002 في هذا المنصب؟ ينفي زرهوني ذلك بشدة مشيراً إلى أن صانعي القرار يعرفون تماماً متطلبات المنصب الذي يحتاج، حسب قوله إلى عالم مُتمّكن ويملك خبرة إدارية. لكن على رغم رفضه لفكرة أن يكون لأصله دور في تعيينه يقرّ زرهوني بأنه عربي أميركي مسلم يخدم بلده الولايات المتحدة من كل قلبه، حسب تعبيره، ويمثل قبل كل شئ العلم في المعهد القومي للصحة.
مراجعة سيرة الطبيب الجزائري تؤيد تصريحه. فحياته مسلسل طبي متصل منذ لحظة وصوله إلى الولايات المتحدة، التي قصدها بعد تخرجه من كلية الطب في جامعة الجزائر عام 1975. آنذاك لم يجد زرهوني، الذي لم يكن يحمل معه سوى 369 دولاراً ولغة إنجليزية متعثرة فرصة عمل سوى في الخفارة الليلية في قسم الطوارئ. هذا العمل الشاق الذي لا يستهوي أحداً وفرّ في رأيه أحسن فرصة للتدريب، ومنه انتقل للعمل في كلية الطب في جامعة جونز هوبكنز، التي تُعتبر أهم مركز للبحوث الطبية الأميركية. هنا بدأ صعوده الخارق، ليصبح خلال 3 سنوات الطبيب المقيم الأقدم في قسم الأشعة، وينال بعد 4 سنوات لقب مساعد أستاذ، ثم أستاذ مشارك ورئيس قسم الإشعة، ويجمع بعد ذلك بين كرسي أستاذ الطب الشعاعي والهندسة البيولوجية الطبية. ويرتقى في العام 2000 قمة السلم العلمي بانتخابه عضواً في معهد الطب في الأكاديمية القومية للعلوم.
ويمثل زرهوني المثال الصالح للطبيب، حسب واحد من أشهر الأطباء العرب في التاريخ، الرازي، الذي كان يقول: ينبغي أن تكون حالة الطبيب معتدلة، لا مقبل على الدنيا كليّة ولا مُعرض عن الآخرة كليّة، فيكون بين الرغبة والرهبة. زرهوني يتقن إلى جانب لغته العربية الإنجليزية والفرنسية والألمانية، ويعزف على العود والبيانو، ويمارس مع زوجته نادية عزة، وهي طبيبة أطفال لعب التنس والغوص تحت الماء. مقابل ذلك تتضمن بحوثه العلمية المنشورة 160 مقالة وفصل في 11 كتاب، و8 براءات اختراع، في المقدمة منها تقنية استخدام المسح المغناطيسي الرنيني MRI لتصوير تكوين ووظيفية عضلات القلب. يستخدم هذه التقنية حالياً أطباء الأشعة والتشريح والقلب والمهندسون في جميع أنحاء العالم. وعلى المستوى نفسه تُستخدم تقنية التصوير الطبقي بواسطة الكومبيوتر، التي طوّرها لقياس كثافة نسيج الرئة وتحديد ما إذا كانت العقد المكتشفة في الرئة خبيثة أم لا. حوّلت هذه التقنيات المسح الرنيني المغناطيسي، في تقدير إدوارد ميلر عميد كلية طب جونز هوبكنز إلى أدوات لتصوير عمل الجسم على المستوى الجزيئي.
وترتبط بإسم زرهوني أحدث المبادرات في الخطوط المتقدمة من علوم الطب، حيث عمل على إنشاء معهد هندسة الخلية للاستفادة من علوم البروتينيات Proteomics والخلايا الجذعية Stem cells. هذه الفروع العلمية الجديدة تحوّل الطب من علم يستقصي العلل ويرصد الأمراض إلى علم يتوقع حدوثها ويتنبأ بآثارها المقبلة ويضع طرق تلافيها. وعلى صعيد نقل العلم والتكنولوجيا إلى عالم الأعمال والصناعة ساهم زرهوني في إقامة متنزهات للبحث الطبي تضم شركات خاصة لتطوير البحوث الأكاديمية أنشئ بعضها بمبادرته الشخصية.
تقدم علمي باهر ترافق مع صعود مثير في سلم الإدارة الطبية والمسؤوليات الصحية، حيث شغل مناصب عدة، منها نائب عميد كلية الطب في جامعة جون هوبكنز، وعضو مجلس إدارة المعهد القومي للسرطان، ومستشار منظمة الصحة العالمية، ومستشار البيت الأبيض للشؤون الصحية خلال رآسة رونالد ريغان عام 1985. ويقرّ زرهوني بصلاته بالإدارة الأميركية في واشنطن مشيراً إلى ضرورة وجود أشخاص قادرين على التعامل مع هذه الجوانب في العلم، ويعترف بتعقيد التفاعل مع السياسة مشيراً إلى ضرورته بالنسبة للمهمة النبيلة التي يقوم بها العلم.
ولعبت الخلفية العائلية لزرهوني، الذي ولد في بلدة ندرومه في الجزائر دوراً في نشأته وتوجهه العلمي. والده من رواد مهنة التعليم في الجزائر، وخاله من أول العاملين الجزائريين في التشخيص الشعاعي الطبي. ويعود الفضل إلى الخال في تحوّله من دراسة الرياضيات إلى الطب، حيث عرض عليه أول صورة شعاعية لورم في الدماغ استُخدمت فيها تقنية الرسم المحوري الطبقي بواسطة الكومبيوتر CAT، وكشف له أن الطب يتكون من علوم مختلفة تشمل أيضاً الفيزياء والكومبيوتر والرياضيات. وهذا هو فحوى البرنامج الذي ينفذه العالم الجزائري الذي يشرف حالياً على وضع استراتيجيات البحث الطبي في الولايات المتحدة. فالمسألة الملحة بالنسبة له هي تشكيل فرق من علماء في الفيزياء والبيولوجي والمعلومات للعثور بأقصى سرعة على ما يسميه الوقاية الجزيئية من الأمراض. يعني ذلك اكتشاف المرض على أصغر مستوى في خلايا الجسم وهو المستوى الجزيئي molecular، حيث يمكن رصده والوقاية منه قبل نشوئه بسنوات عدة. ويذكر زرهوني أنه خامس ولد في عائلة تملك 7 صبيان وقد منحه هذا مهارات المحافظة على البقاء والقدرة على العمل المشترك. هل لهذه المهارات دور في قدرته على شق طريقه عبر ما يسميه زميل له متاهة البيروقراطية المدوخة؟
وهل تنفعه مهاراته في أن يردّ جميل وطنه الأم الجزائر؟
قد تجيب عن هذا السؤال مناسبة جمعت بين العالم الجزائري وكاتب هذه السطور في افتتاحية واحدة في المجلة العلمية الدولية "نيتشر" Nature. تناولت الافتتاحية، التي نُشرت في 14 مارس 2002 إنشاء المؤسسة العربية للعلوم والتكنولوجيا في المدينة الجامعية في الشارقة وعمل كاتب هذه السطور في حشد تأييد المجتمع العلمي لها. ربطت افتتاحية المجلة العلمية بين حاجة المؤسسة العربية الوليدة إلى التمويل وقرار الرئيس الأميركي تعيين زرهوني في منصبه، ونصحت بالبحث عن متبرعين أفراد بين العرب الأميركيين الذين يمثلون في تقديرها قوة اقتصادية وسياسية صاعدة خطب ودها الرئيس بوش في حملة الرآسة عام 2001. وفي إشارة خشيت المجلة أن تستفز المشاعر ذكرت أن معهد وايزمن للعلوم في إسرائيل حصل على 17 في المئة من موازنته السنوية البالغة 180 مليون دولار من تبرعات لجنة أميركية تسانده يتكون معظمها من يهود أميركيين. وتوقعت أن تنال المؤسسة العربية الكثير إذا أفلحت في إقناع العرب الأميركيين الأثرياء بمضاهاة نظرائهم اليهود في دعم البحث العلمي.
هذا الكلام يبدو نكتة مقذعة عند مقارنته بنزح الولايات المتحدة لأدمغة الدول العربية والإسلامية بموجب قوانين وتعليمات تضفي الشرعية على جريمة السرقة المنظمة. مليارات الدولارات تخسرها الدول العربية والإسلامية بسبب نهب يبدو كتكريم لنخبة علمائها وأطبائها ومهندسيها، فيما هو يزعزع كياناتها العلمية ويهين كرامتها الوطنية، ويشنّع عليها لخسارتها خيرة أبنائها! وفي الطب، كما في جميع العلاقات العربية الأميركية تدين الولايات المتحدة للعرب وليس العكس. فالعرب الأميركيون أكثر السكان توجهاً نحو مهنة الطب. كشف ذلك ملف سكاني صدر في العقد الماضي عن معهد العرب الأميركيين في واشنطن، وجاء فيه أن نسبة العرب الأميركيين العاملين في الطب تقرب من 8 في المئة، بينما تبلغ النسبة العامة في الولايات المتحدة نحو 3 في المئة. وتشير النسبة العالية لأصحاب المهن الطبية من أصل عربي المولودين في العالم العربي، والبالغة نحو 10 في المائة إلى حجم استحواذ الولايات المتحدة على الأدمغة الطبية العربية. وقد ارتفع هذا الرقم مع الزيادة في نسبة المولودين خارج الولايات المتحدة بين العاملين في العلوم والتكنولوجيا، وقد تربو النسبة الآن على ثلاثة أضعاف ذلك عند حساب العرب "الأشباح". فبسبب حملة المعاداة العنصرية الشرسة ضدهم يخفي ثلثا العرب والمسلمين الأميركيين أصولهم. يشير إلى ذلك تقرير منشور في صحيفة "نيويورك تايمس" قبل أيام عن نتائج الإحصاء الأخير للسكان في الولايات المتحدة، وجاء فيه أن كثيراً من العرب الأميركيين، الذين يقرب عددهم من 4 ملايين يذكر في قسيمة الإحصاء أنه أميركي أبيض أو أميركي أفريقي!
* محمد عارف، مستشار في العلوم والتكنولوجيا، صحيفة الاتحاد, أبوظبي، www.alittihad.ae، مؤسسة الإمارات للإعلام www.emi.co.ae
العدد 10413 الخميس 23 ذي القعدة 1424هـ /15 - 1 - 2004 م

مشكووور على المجهود الكبير